في المساء وحين تنزوي جبالنا في بحور الهمّ , فإنّ النفسَ تضيءُ أركان السماءِ بنجمِ التمني .
- لم أخسر كل شيء ...
- ولم أخسر ظلي ..
- لم أخسر ذاكرةً للطفلة التي ما زالت تسقيني أباريقَ من العلقمْ ..
- لكني أبعثُ من بعد ضياع اللؤلؤ فارس ريحٍ مع نعشي , وأصير ملاكاً يحفظ اسماً للطرقات ,
أو يخشع عند رحيل الزنبق في دمه كحكاية روحٍ منسيّة ...
كلمات قالها عامر والغُصّة تملأحلقه .. تذكّر فيها الأيام التي أُشبعت نفسه بالغدر, ففاضتْ عيونه ببراكين الدمع والعذاب ...
عامر ذاك الشاب الذي كان في الماضي طفلاً يبحث عن دفءٍ يأويه من زوجة والده , والتي أفقدته حنان الأم , وغرزت في صدره خناجر الخوف والقلق , فبات يسأل عن مفردات الحب الضائع والتقاسيم اللحنيّة العذبة التي كان يسمعها كل يوم من والدته قبل أن ينام ...
هاهو اليوم أصبح شاباً وتحرر من قيود الماضي , بعد أن تجرع العلقم وتلقى عدة طعناتٍ ما زالت تنخر في وريده وتتسابق لغرز آلامها في قلبه ..
أصبح شاباً وعينه على الماضي اللعين .. حتى تهاوت عواطفه وبرُدت مشاعره , لكن الأيام تعبث بالقلوب ,وتحررها من صمتها المطبق , عمل هذا الشاب المفتول العضلات في إحدى دور الرعاية الصحيّة , فكان مثالاً للولد البار , لقد أحسّ أن كل واحد في الدار هو أبيه أو أمّه ... أمه التي افتقدها مذ كان طفلاً صغيراً .
كان يحنو عليهم , ويقدم لهم الطعام ويستدفىء بحديثهم ,,,
سألته واحده ممن في الدار ذات مرة :
- لماذا لا تذهب لبيتك يا ولدي ؟ أليس لديك أبويين ترعاهما كما ترعانا ؟
فأطبق الصمت عليه ثم تنهّد متحسرا وقال :
- أنتم من بقي لي في هذه الدنيا , لقد افتقدت حنان والدتي منذ الصغر ووالدي لم يكن يسمع لصوت قلبه ,بل كان يسمع لصوتٍ أشبه بالنعيق في كل يوم , يؤنبني ويقتل ما بقي في صدري
من عاطفة ...
ذهب وترك حديثه الدهشة تملأ قلب هذي العجوز المسكينة , والألم يعتصر ما تبقى من روحها الهشّة الضعيفة .
استذكرت أولادها وما تبقى من شتاتهم في مخيلتها , استذكرت عقوقهم وقارنته ببره ..
يالله كم أنتِ قاسية أيتها الحياة ..!!
يالله كم أصبحت السعادة هي موت كل شهوتي ..!!
أيتها اللذة يا سر ذلك التأوه العميق ..
عامر الآن إنسانٌ مختلف , فالإنسانية لا تنحي أمام كبرياء البشر , أراه يجلس وحيداً كل مساء على طاولة في الحديقة , وأمامه كأسُ قهوته المعتاد , وعبق سيجارته يملأ المكان , وفي كل
نفس يأخذه مع رشفة من فنجان قهوته أحسّ أن خيوط الألم تخرج من صدره مع كل خيوط
دخانه ...
استيقظ ذات صباح على صوتِ يملأ المكان , فهرع من نومه مقتفياً أثر الصوت , إلى أن وصل غرفة الإدارة ,وهناك تفاجأ بخروج إحدى العاملات في الدار من غرفة الإدارة والغضب يملأ تقاسيم وجهها , فحاول أن لا يكلمها خوفا من ردٍّ لا يليق , فالتزم الصمت وعيناه ترقب ما يحصل .
عندها عرف أنها ستغادر الدار ...
ولكثرة مرتادي الدار من الآباء والأمهات ممن جارت عليهم الظروف وقست عليهم القلوب .. فقد تقرر تعيين مجموعة من الموظفات الجدد .
جاءت البنات للمقابلة , وتم اختيار مجموعة مناسبة ممن تنطبق عليهن الشروط .. كن جميلات , واحدة منهن تلقفتها عيونه ، وصافحتها أهدابه .. و أشرقت نظرة من عينيها اللتين تختزنان آمالاً و طموحاتٍ و إبحاراً في مجهول .
كانت سمراء ممشوقة بابتسامة بريئة وضّاءة ، و عيون صقريّة متبّلة بنظرة محيّرة ..
لا تنطق إلا بتناغم مع ابتسامة ، و رنين حميم يطوقك من شرايينك إلى تجاويف عقلك فلا تعني كلامها من أول مرّة إنك تبقى مشدوهاً بها ، منجذباً إليها و أعصابك متوفزة كأوتار عازف نزق .
إنها مخلوق تنسجم فيه الفصول و تتجاوب فيه نايات الرعاة ، و ذكريات العاشقين و تأوهاتهم . و صمتها فصل خامس لم يخلق بعد .
لقد تحوّل هذا القلب العاجز إلى قلبٍ نابضٍ بالحب والشوق , ممتلىءٌ بزغاريد المطر فوق العروق اليابسة من فقر الزمن وبؤس الحياة , أحبها مع مرور الوقت وأصبح عاشقاً نزق , وأحبت فيه صمته وروحه القاطنة في أعماقه المسحوقة .. ولكن ..؟؟؟
قال لها ذات يوم :
- ليس أنفي الذي يشتم عبق عطرك , إنها أعماقي التي تفيض من شذى شعرك عطرا وطيبا .
فردت عليه بابتسامة خبيثة , وذهبت دون أن تنطق بحرفٍ واحدٍ ..
ومرت الأيام وهما يتجاذبان أطراف الحديث , وكأن روحاً خفيّةً تسكنهما , أصبحت تشاركه فنجان قهوته عند المساء , وتتنفس من دخانه المتطاير في السماءْ , أحبها كثيرا ولكنها للأسف لم تكن ترى فيه ذاك الفارس المنقذ لها من براثن الأيام ...
ليتني الشمعة التي تدفىء الفقراء .. آه ما أقساك أيتها الآلام , وما أحلاك أيتها الدموع الصادقة , فأنت تغسلين ما علق بنا من وسخ الأيام .
تعلق بها كثيراً وهي تبتعد , نيرانه مشتعلة وهي ترتعد , يحاول أن يعوض ما فاته من حنان سابق , ولكنها الأيام للأسف , لا تعطينا كل شيء نطلبه , فتجري الرياح بما لا تشتهي السفن , أصبح يفتقدها من طاولته المسائية , ومن أنفاسها الصباحية , حتى شعر بأن غيمة سوداء تعلو سفح هذا الكون البائس .
عاد لشروده وقلة حيلته , حاول معها كثيرا دون جدوى , سرد لها حياته الماضية فزادت تبلداً , وذات يوم أفاق ولم يجدها , فتبعثرت أوراقه وتناثرت دموعه حبراً على الورق , فبكى وبكى وبكى ....
أشفقت عليه العجوز , وتقطعت أساريرها عليه , فحاولت أن تثنيه مما هو فيه والغصة تملأ حلقها , والمرارة تخرج مع كلاماتها المتهالكة , ولكن دون جدوى ..
أحس وقتها بأن عدالة الأرض تدور تحت قدمه ككرة أرضيةٍ , وأن قلبه أصبح كالمرايا , وأن الفرح الذي شعر به في الفترة القصيرة الماضية , ما هو إلّا موجة صغيرة تفيض من بحر العذاب , وما أن تلامس الشواطىء حتى تنكسر وتتلاشى ..
يا الله .... قالها مرات ومرات .. وعرف وقتها أن الحياة كدورة اسطوانة , تعود من حيث بدأتْ , وشعر أن حياته هي هروب من الموت فقط , ولم يعد الخيال شيئاً سهلاً بالنسبة إليه , فحتى تتخيل لا بد من استخدام عقلك أولاً .
فعرف بعدها أن عشقه كان في لحظة مجازفة , وأن أحلامه كانت كدخان سيجارته المتطاير بالهواءْ .